كتب: عبد الباسط آدم
جيلنا شهد ولا يزال يشهد تطورلت وتغيرات كبيرة في الخارطة الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية والعالمية.
أبرز هذه التحولات هو التحور الظاهر في مبادئ واهداف منظمة الامم المتحدة التي كانت حتي الأمس القريب الملاذ الأخير والملجأ الآمن لردع ولجم الظلم والفساد في العالم هذا بالرغم من سوء استخدام حق الفيتو أحيانًا لكنها اصبحت الآن تتعامل مع قضايا العالم بعقلية المعصومين تلقائيا مهما أذنبوا والمذنبين تلقائيًا مهما ظُلموا بمعني تقسيم البشر إلى “خيار وفقّوس” وهو انحدار مؤسف جداَ في أخلاق الأمم ، أضف إلى ذلك الخلل في مقياس حقوق الإنسان، وفي ميزان العدالة الدولية حيث أننا لم نشهد حتى الآن محاكمة لرئيس غير أفريقي.
أما في مجال الطاقة فإننا نشهد البداية الفعلية لمرحلة أفول نجم الطاقة الاحفورية ودخول الطاقات المتجددة وذلك بازدهار المركبات الكهربائية التي أصبحت واقعا في بعض الدول المتقدمة والتي قد تحولت فيها فعليًا بعض محطات الوقود إلى محطات شحن كهربائي للسيارات.
وها نحن نشهد ايضا الانتشار الواسع لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات الحياة واحلال الروبوتات قريبا محل البشر في الكثير من الوظايف، علي سبيل المثال فان الاستشارات القانونية التي يقدمها الذكاء الاصطناعي في امريكا اليوم هي أدق بي 90% من تلك التي يقدمها المحامون، وكذلك يقال أن الذكاء الصناعي يمتاز بدقة أعلى من الأطباء البشر في تشخيص أمراض السرطان.
أما محليا فحتى الأسبوع الماضي كنت اعتقد أن سقوط الرئيس السابق إدريس ديبي إتنو في أرض المعركة هو أهم حدث يشهده جيلنا لأنه أمر لا يحدث إلا في تشاد.
لكن في الوقع أن التحول في طبيعة العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها القديمة والذي استمر لمدة قرن كامل منذ 1900م حيث تميز بالاستعباد والاستبداد وطمس الهويات وفرض الفرنسة والنهب المنظم.
والذي قد بدأ في بعض الدول الإفريقية الثورية ومعظمها من دول الساحل التي بادرت بطرد الفرنسيين أو إنهاء اتفاقيات التعاون العسكري معهم وهي بوركينا فاسو مالي والنيجر افريقيا الوسطى فما لبث أن أخذ هذا التحول في الاتساع حتي وصل إلى تشاد وقريباً ستتبعها السنغال بإذن الله.
لذلك اعتقد أنه من بين كل الأحداث المحلية المهمة التي شهدها جيلي علي كثرتها فإن الحدث الأهم يظل هو انهاء تشاد للاتفاق العسكري مع فرنسا بجرة قلم كما يقال، وذلك فيةبيان رسمي أصدره وزير الخارجية التشادي الناطق الرسمي باسم الحكومة عبدالرحمن غلام الله.
حتي الآن، كل المؤشرات تدل علي أن قرار الإنهاء جاء من طرف واحد فقط أي الجانب التشادي وهو ما ترك أسئلة كثيرة غير واضحة الإجابات خاصة أن الأمر جاء بعد زيارة رئيس الجمهورية محمد ادريس ديبي إلى فرنسا كذلك مباشرة بعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى تشاد ومقابلته للرئيس وقد سبق الزيارة تداول الصحافة الفرنسية لنية الحكومة الفرنسية علي تجديد الاتفاقية مع تشاد وذلك بنقصان عدد الجنود الفرنسيين داخل الأراضي التشادية.
ولعل للأمر علاقة بالهجمات الإرهابية الأخيرة في غرب تشاد حيث توالت الاتهامات لفرنسا بدعمها ورعايتها لإرهابيي بوكو حرام واستخدامهم للي أيدي الحكومات في حوض بحيرة تشاد واستنزافها.
لكن أيضا الكثير من الناس يشككون في أن هذا القرار وراءه ما وراءه من اتفاقيات سرية بين الرئيسين محمد ادريس ديبي إتنو وإيمانويل ماكرون وأن المسالة مجرد مسرحية لرفع الحرج عن فرنسا التي لم تعد قادرة على تحمل نفقات جيوشها المنتشرة في القارة الأفريقية خاصة بعد فقدانها لمناجم اليورانيوم والذهب في أفريقيا وغير ذلك.
رغم صحة هذه الفرضيات لكن تبقى الفرضية الأقرب للواقع هي أن تشاد هي التي أخذت زمام المبادرة و قد أقدمت بنفسها على اتخاذ قرار ذاتي، سيادي وذلك بعد حسابات كثيرة وضرب لأخماس علي أسداس. وفي الغالب بعد ايجاد البديل.
نعم البديل ليست بالضرورة روسيا كما يتبادر الى الأذهان من أول وهلة، فالبديل قد يكون مجرد بديلا لعملية تبادل المعلومات الاستخباراتية وتغطية الأقمار الصناعية لأي تحركات للمتمردين أو اختراق للحدود والتي كانت تقدمها فرنسا عربونا للحكومة التشادية في السابق عندما كانت قدرات الجيش التشادي متواضعة جداً خاصة في الطيران الحربي.
أما الآن فإن مثل هكذا خدمات يمكن لكثير من الدول الأخرى التي أصبحت لاعبا أساسيا في المنطقة تقديمها لتشاد حتي لو استبعدنا الصين أو روسيا.
فهناك دول مثل الإمارات العربية المتحدة بإمكانياتها الخرافية وكذلك إسرائيل لكن ستظل هذه مجرد فرضيات الأيام القادمة كفيلة بكشفها.
كما أن هناك عامل آخر مهم وهو عامل التطور والتقدم الذي حصل للجيش التشادي من حيث الخبرات القتالية والإمكانيات والمعدات من طائرات حربية ومسيرات ومدرعات واستخبارات، وغيرها وقد ظهر ذلك جليًا للعيان خلال الحرب الأخيرة ضد بوكو حرام في بحيرة تشاد والتي يقال أن القوات الفرنسية رفضت خلالها تقديم المساعدة للجيش التشادي.
على العموم مهما كانت الأسباب والمبررات التي أدت إلى هذا القرار واللغط الكثير الذي نتج عنه إلا أننا يجب أن نعترف بأن أحدا لم يكن يتوقعه وأقل ما يقال عنه أنه قرار شجاع وقد لاقى هوى الجميع من غير استثناء.
لأن المزاج السياسي العام للسواد الأعظم من التشاديين بمختلف أوراقهم وتوجهاتهم واعتقاداتهم هو رفض وعدم قبول فرنسا والقاء اللوم عليها باعتبارها المسؤول الأول عن كل الفتن والحروب والدمار والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وكذلك الفساد الإداري في تشاد.
وقد ارتفعت الأصوات عاليًا خلال العقد الأخير مطالبة بخروج فرنسا من البلاد إلا أن أحدا لم يكن يتوقع أن يتم الأمر بهذه الطريقة.
أما الآن وقد حصل الأمر فأتمنى أن تكون الحكومة التشادية متحضرة لأي مفاجآت لأن كل التقارير تشير إلى أن موقف قيادات الجيش الفرنسي كان دائما هو الإصرار على عدم الخروج من تشاد مهما كلف الأمر ويعتقدون أن خروجهم من تشاد سيفقدهم ميزات استراتيجية كبيرة.
لذلك فإن الأمر يحتاج إلى حنكة وإلى لعبة سياسية واستراتيجية ذكية ومساومة ليست بالضرورة الارتماء في احضان دولة أخرى لها مطامعها وأهدافها الخاصة والتي قد تتنافى مع مصالحنا الوطنية.
يجب أن تدرك الحكومة أن الشعب التشادي لن يقبل بمجرد استبدال الوكيل بمعني أن تستبدل فرنسا بأي دولة أخرى باتفاقية جديدة لا تحترم السيادة الوطنية أو إعطاء امتيازات كبيرة لأي دولة أجنبية من غير مصلحة حقيقية للوطن أو المواطن.
نرحب بالتعاون الإيجابي مع أي دولة من دول العالم من غير قيود فقط يجب أن يقتصر التعاون على المصالح الاقتصادية أو التجارية البحتة من غير فرض لأي توجهات أو أجندة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو أي نوع من انواع القيود.
كما اقترح لوزارة الخارجية التشادية أن تعمل من الآن على تجهيز ملف مذبحة الكبكب وتحريكه من أجل المطالبة بتعويضات لأهالي الشهداء، وكذلك استرجاع رفاة المقاومين التشاديين الذين تم قطع رؤسهم وإرسالها إلى فرنسا ليتم دفنهم وتكريمهم بصورة لائقة في بلادهم.
كما اقترح على الحكومة الانضمام إلى كونفدرالية دول الساحل الثلاث والتي ستلتحق بها السنغال تلقائيا وذلك بغرض العمل على توحيد الاقتصاد وتوحيد العملة فيما بينها والتخلص من الفرنك سيفا فلا يوجد أي معنى لارتهان الاقتصاد لفرنسا ومواصلة طباعة العملة من هناك.
المزيد
نوفمبر 14, 2024